سورة المائدة - تفسير تفسير أبي السعود

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (المائدة)


        


{أَفَحُكْمَ الجاهلية يَبْغُونَ} إنكار وتعجيبٌ من حالهم وتوبيخ لهم، والفاء للعطف على مقدّرٍ يقتضيه المقام، أي أيتولون عن حكمك فيبغون حكم الجاهلية؟ وتقديمُ المفعول للتخصيص المفيدِ لتأكيد الإنكار والتعجيب، لأن التولَّيَ عن حكمه عليه الصلاة والسلام وطلبَ حكمٍ آخرَ منكرٌ عجيب، وطلبُ حكم الجاهلية أقبح وأعجب، والمراد بالجاهلية إما المِلةُ الجاهلية التي هي متابعةُ الهوى الموجبةُ للميل والمداهنةُ في الأحكام فيكون تعييراً لليهود بأنهم مع كونهم أهلَ كتاب وعلمٍ يبغون حكمَ الجاهلية التي هي هوى وجهلٌ لا يصدُر عن كتاب ولا يرجِعُ إلى وحي، وإما أهلُ الجاهلية، وحكمُهم ما كانوا عليه من التفاضل فيما بين القتلى، حيث رُوي «أن بني النضيرِ لما تحاكموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في خصومةِ قتلِ وقعت بينهم وبين بني قريظة طلبوا إليه عليه الصلاة والسلام أن يحكم بينهم بما كان عليه أهلُ الجاهلية من التفاضل، فقال عليه الصلاة والسلام: القتلى سواءٌ فقال بنو النضير: نحن لا نرضى بذلك فنزلت»، وقرئ برفع {الحكم} على أنه مبتدأ ويبغون خبرُه والراجعُ محذوفٌ حذْفَه في قوله تعالى: {أهذا الذى بَعَثَ الله رَسُولاً} وقد استُضعف ذلك في غير الشعر، وقرئ بتاء الخطاب إما بالالتفات لتشديد التوبيخ وإما بتقدير القول أي قل لهم أفحكم الخ، وقرئ بفتح الحاء والكاف أي أفحاكماً كحكام الجاهلية يبغون {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله حُكْماً} إنكار لأن يكون أحدٌ حكمُه أحسنُ من حكمه تعالى أو مساوٍ له، وإن كان ظاهرُ السبك غيرَ متعرِّضٍ لنفي المساواة وإنكارِها، وقد مر تفصيله في تفسير قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله} {لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} أي عندهم، واللام كما في {هَيْتَ لك}، أي هذا الاستفهام لهم فإنهم الذين يتدبرون الأمور بأنظارهم، فيعلمون يقيناً أن حكم الله عز وجل أحسنُ الأحكام وأعدلُها. {يأيها الذين آمنوا} خطاب يعُمّ حكمُه كافةَ المؤمنين من المخلصين وغيرهم، وإن كان سببُ ورودِه بعضاً منهم كما سيأتي، ووصفُهم بعنوان الإيمان لحملَهم من أول الأمر على الانزجار عما نُهوا عنه بقوله عز وجل: {لاَ تَتَّخِذُواْ اليهود والنصارى أَوْلِيَاء} فإن تذكيرَ اتصافِهم بضد صفات الفريقين من أقوى الزواجر عن موالاتِهما، أي لا يتخذْ أحدٌ منكم أحداً منهم ولياً، بمعنى لا تُصافوُهم ولا تعاشِروهم مُصافاةَ الأحباب ومعاشرَتَهم لا بمعنى لا تجعلوهم أولياءَ لكم حقيقة، فإنه أمرٌ ممتنِعٌ في نفسه لا يتعلق به النهي {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ} أي بعضُ كلِّ فريق من ذَيْنِك الفريقَيْن أولياءُ بعضٍ آخَرَ من ذلك الفريق لا من الفريق الآخر، وإنما أوثر الإجمالُ في البيان تعويلاً على ظهور المُراد لوضوح انتفاءِ الموالاة بين فريقَي اليهود والنصارى رأساً، والجملة مستأنفةٌ مَسوقة لتعليل النهي وتأكيدِ إيجاب الاجتناب عن المنْهيِّ عنه أو {بعضُهم أولياء بعض} متفقون على كلمة واحدة في كل ما يأتون وما يذرون ومن ضرورته إجماعُ الكل على مُضادَّتكم ومضارَّتِكم بحيث يسومونكم السوءَ ويبغونكم الغوائل، فكيف يُتصورُ بينكم وبينهم موالاة؟ وقوله تعالى: {وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} حكمٌ مستنتَجٌ منه، فإن انحصارَ الموالاة فيما بينهم يستدعي كونَ من يواليهم منهم، ضرورةَ أن الاتحادَ في الدين الذي عليه يدور أمرُ الموالاة حيث لم يكن بكونهم ممن يواليهم من المؤمنين، تعيّنَ أن يكون ذلك بكَوْنِ من يواليهم منهم، وفيه زجرٌ شديد للمؤمنين عن إظهار صورةِ الموالاة لهم وإن لم تكن موالاةً في الحقيقة وقوله تعالى: {إِنَّ الله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين} تعليلٌ لكون من يتولاهم منهم أي لا يهديهم إلى الإيمان بل يخليهم وشأنَهم فيقعون في الكفر والضلالة، وإنما وَضعَ المُظْهَرَ موضع ضميرِهم تنبيهاً على أن تولِّيهم ظلمٌ، لما أنه تعريضٌ لأنفسهم للعذاب الخالد ووضعٌ للشيء في غير موضعه.


وقوله تعالى: {فَتَرَى الذين فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} بيان لكيفية توليهم، وإشعارٌ بسببه وبما يؤول إليه أمرُهم، والفاء للإيذان بترتُّبه على عدم الهداية، والخطابُ إما للرسول صلى الله عليه وسلم بطريق التلوين، وإما لكل أحدٍ ممن له أهليةٌ له، وفيه مزيدُ تشنيع للتشنيع، أي لا يهديهم بل يذرهم وشأنَهم فتراهم الخ، وإنما وُضع موضعَ الضمير الموصولُ ليُشارَ بما في حيز صلته إلى أن ما ارتكبوه من التولي بسبب ما في قلوبهم من مرض النفاق ورَخاوة العَقْد في الدين، وقوله تعالى: {يسارعون فِيهِمْ} حال من الموصول والرؤية بصرية، وقيل: مفعولٌ ثانٍ والرؤية قلبية، والأول هو الأنسبُ بظهور نفاقهم، أي تراهم مسارعين في موالاتهم، وإنما قيل: فيهم مبالغةً في بيان رغبتِهم فيها وتهالُكِهم عليها، وإيثارُ كلمة {في} على كلمة {إلى} للدلالة على أنهم مستقرون في الموالاة، وإنما مسارعتُهم من بعضِ مراتبها إلى بعضٍ آخر منها كما في قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ يسارعون فِى الخيرات} لا أنهم خارجون عنها متوجِّهون إليها كما في قوله تعالى: {وَسَارِعُواْ إلى مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ وَجَنَّةٍ} وقرئ {فيَريَ} بياء الغَيْبة على أن الضمير لله سبحانه، وقيل: لمن تصِحُّ منه الرؤية، وقيل: الفاعل هو الموصولُ والمفعول هو الجملة على حذف أن المصدرية، والرؤية قلبية أي ويرى القومُ الذين في قلوبهم مرض أن يسارعوا فيهم، فلما حُذفت أنْ انقلب الفعلُ مرفوعاً كما في قول من قال:
ألا أيُّهذا الزَّاجِريْ أحْضُرُ الوغى ***
والمراد بهم عبدُ اللَّه بنُ أُبيّ وأضرابُه الذين كانوا يسارعون في مُوادَّةِ اليهود ونَصارى نجرانَ، وكانوا يعتذرون إلى المؤمنين بأنهم لا يأمنون أن تصيبَهم صروفُ الزمان وذلك قوله تعالى: {يَقُولُونَ نخشى أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ} وهو حال من ضمير يسارعون، والدائرةُ من الصفات الغالبة التي لا يُذكر معها موصوفُها، أي تدور علينا دائرةٌ من دوائر الدهر ودَوْلةٌ من دُولِه بأن ينقلبَ الأمرُ وتكون الدولةُ للكفار، وقيل: نخشى أن يصيبنا مكروهٌ من مكاره الدهر كالجدْب والقَحْط فلا يعطونا المِيرةَ والقَرْض. روي «أن عبادة بنَ الصامت رضي الله تعالى عنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن لي مواليَ من اليهود كثيراً عددُهم وإني أبرأ إلى الله ورسولِه من وَلايتهم، وأُوالي الله ورسوله. فقال عبد اللَّه بنُ أُبي: إني رجل أخاف الدوائرَ لا أبرأ من وِلاية مواليَّ» وهم يهودُ بني قَيْقُناع، ولعله يُظهرُ للمؤمنين أنه يريد بالدوائر المعنى الأخيرَ ويُضمِرُ في نفسه المعنى الأول وقوله تعالى: {فَعَسَى الله أَن يَأْتِىَ بالفتح} رد من جهة الله تعالى لعللهم الباطلة وقطعٌ لأطماعهم الفارغة وتبشيرٌ للمؤمنين بالظفر، فإن {عسى} منه سبحانه وعدٌ محتوم، لما أن الكريمَ إذا أطْمَعَ أطعم لا محالة فما ظنك بأكرمِ الأكرمين؟ و{أن يأتي} في محل النصب على أنه خبرُ عسى وهو رأي الأخفش، أو على أنه مفعول به وهو رأيُ سيبويه، لئلا يلزَمَ الإخبارُ عن الجُثَّة بالحدَث كما في قولك: عسى زيد أن يقوم، والمراد بالفتح فتحُ مكةَ، قاله الكلبي والسُّديّ، وقال الضحاك: فتحُ قُرى اليهودِ من خيبرَ وفَدَك، وقال قَتادة ومقاتِلٌ: هو القضاءُ الفصلُ بنصره عليه الصلاة والسلام على من خالفه وإعزازِ الدين {أَوْ أَمْرٍ مّنْ عِندِهِ} بقطع شأفةِ اليهود من القتل والإجلاء {فَيُصْبِحُواْ} أي أولئك المنافقون المتعلَّلون بما ذُكر وهو عطفٌ على ما يأتي داخلٌ معه في حيز خبرِ عسى، وإن لم يكن فيه ضميرٌ يعود إلى اسمها، فإن فاء السببية مغنيةٌ عن ذلك، فإنها تجعل الجملتين كجملة واحدة {على مَا أَسَرُّواْ فِى أَنفُسِهِمْ نادمين} وهو ما كانوا يكتمونه في أنفسهم من الكفر والشك في أمره عليه الصلاة والسلام، وتعليقُ الندامة به لا بما كانوا يُظهرونه من موالاة الكفرة لِما أنه الذي كان يحمِلُهم على الموالاة ويُغريهم عليها فدل ذلك على ندامتهم عليها بأصلها وسببها.


{وَيَقُولُ الذين ءامَنُواْ} كلام مبتدأ مَسوقٌ لبيان كمال سوء حال الطائفة المذكورة وقرئ بغير واو على أنه جواب سؤال نشأ مما سبق كأنه قيل: فماذا يقول المؤمنون حينئذ؟ وقرئ {ويقولَ} بالنصب عطفاً على يصبحوا، وقيل: على {يأتيَ} باعتبار المعنى كأنه قيل: فعسى أن يأتيَ الله بالفتح ويقولَ الذين آمنوا والأولُ أوجهُ، لأن هذا القول إنما يصدر عن المؤمنين عند ظهور ندامةِ المنافقين لا عند إتيان الفتح فقط، والمعنى ويقول الذين آمنوا مخاطِبين لليهود مشيرين إلى المنافقين الذين كانوا يوالونهم ويرجون دولتَهم ويُظهرون لهم غاية المحبة وعدمَ المفارقة عنهم في السراء والضراء عند مشاهدتهم لخَيْبة رجائِهم وانعكاسِ تقديرهم بوقوع ضدِّ ما كانوا يترقبونه ويتعللون به، تعجيباً للمخاطَبين من حالهم وتعريضاً بهم {أهؤلاء الذين أَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أيمانهم إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ} أي بالنصر والمعونة كما قالوا فيما حُكيَ عنهم {وإن قوتلتم لننصُرَنَّكم} واسمُ الإشارة مبتدأ وما بعده خبرُه، والمعنى إنكارُ ما فعلوه واستبعادُه وتخطئتُهم في ذلك، أو يقولُ بعضُ المؤمنين لبعضٍ مشيرين إلى المنافقين أيضاً أهؤلاء الذين أقسموا للكَفَرة إنهم لمعكم؟ فالخطابُ في {معكم} لليهود على التقديرين إلا أنه على الأول من جهةِ المؤمنين وعلى الثاني من جهة المُقْسِمين، وهذه الجملةُ لا محلَّ لها من الإعراب لأنها تفسيرٌ وحكايةٌ لمعنى أقسَموا لكن لا بألفاظهم وإلا لقيل: إنا معكم، وجَهدُ الأيْمان أغلظُها وهو في الأصل مصدر ونصبُه على الحال على تقدير وأقسموا بالله يَجْهَدون جَهدَ أيمانهم، فحُذِفَ الفعلُ وأقيم المصدرُ مُقامَه، ولا يبالى بتعريفه لفظاً لأنه مؤوَّلٌ بنكرة أي مجتهدين في أيْمانهم أو على المصدر أي أقسموا إقسامَ اجتهادٍ في اليمين وقوله تعالى: {حَبِطَتْ أعمالهم فَأَصْبَحُواْ خاسرين} إما جملةٌ مستأنفةٌ مَسوقةٌ من جهته تعالى لبيان مآلِ ما صنعوه من ادِّعاء الولاية والإقسام على المعيَّةِ في المنشَطِ والمكره إثرَ الإشارة إلى بُطلانه بالاستفهام الإنكاري، وإما خبرٌ ثانٍ للمبتدأ عندَ مَنْ يجوِّزُ كونَه جملةً كما في قوله تعالى: {فَإِذَا هِىَ حَيَّةٌ تسعى} أو هو الخبرُ والموصول مع ما في حيز صلتِه صفةٌ لاسم الإشارة، فالاستفهامُ حينئذٍ للتقرير، وفيه معنى التعجب كأنه قيل: ما أحبَطَ أعمالَهم فما أخسرَهم، والمعنى بطلتْ أعمالُهم التي عمِلوها في شأن موالاتكم وسعوا في ذلك سعياً بليغاً حيث لم تكن لكم دولةٌ فينتفعوا بما صنعوا من المساعي وتحمَّلوا من مكابدة المشاق، وفيه من الاستهزاء بالمنافقين والتقريع للمخاطَبين ما لا يخفي، وقيل: قاله بعضُ المؤمنين مخاطِباً لبعض تعجباً من سوء حال المنافقين واغتباطاً بما منّ الله تعالى على أنفسهم من التوفيق للإخلاص: أهؤلاءِ الذين أقسموا لكم بأغلظِ الأيْمان أنهم أولياؤُكم ومعاضِدوكم على الكفار؟ بطَلتْ أعمالُهم التي كانوا يتكلّفونها في رأيِ أعينِ الناس، وأنت خبير بأن هذا الكلامَ من المؤمنين إنما يليقُ بما لو أظهرَ المنافقون حينئذ خلافَ ما كانوا يدَّعونه ويُقسِمون عليه من ولاية المؤمنين ومعاضَدَتِهم على الكفار فظهر كذِبُهم وافتُضحوا بذلك على رؤوس الأشهاد وبطَلتْ أعمالُهم التي كانوا يتكلفونها في رأي أعين المؤمنين، ولا ريب في أنهم يومئذ أشدُّ ادعاءً وأكثر إقساماً منهم قبل ذلك، فضلاً عن أن يظهروا خلافَ ذلك، وإنما الذي يظهر منهم الندامةُ على ما صنعوا وليس ذلك علامةً ظاهرةَ الدلالة على كفرهم وكذبهم في ادعائهم، فإنهم يدّعون أنْ ليست ندامتُهم إلا على ما أظهروه من موالاة الكَفَرةِ خشيةَ إصابةِ الدائرة.

9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16